ـــــــــــــــــــــــــــــــــ ( النّص الشعري وآفاق التّحديث)ــــــــــــــــــــــــــــــ
...................................... (3)..............................
ـــــــــــــــــــــــ ظاهرة تماثل الأبنية في شعر محمود إسماعيل ــــــــــــــ
**************************************
يبقى الأديب الحريص على تحديث فنه كدولاب لا يكفّ عن الدوران، يمتح من بحار المبدعين المشهود لهم بالأصالة والتجديد؛ ليوظف ما يراه مناسبًا في تجاربه التي يتغيّا إبداعها ونشرها.
ومحمود حسن إسماعيل شاعر كبير ذو أبعاد وآفاق، متعدد المواهب والمذاهب، يتغيّا في شعره ويتزيّا بالكثير من الوسائل والتقنيات التعبيرية والأسلوبية اللافتة ، ومن الوسائل التعبيرية اللافتة للناظر في شعر محمود حسن إسماعيل ما يمكن أن نطلق تماثل الأبنية التركيبية وهى على أفقين:-
الأفق الأول :- يمكن أن نطلق عليه التماثل اللفظى للأبنية حيث تتوزع الأبنية وتتشابه تشابها لفظيًا تتجاذب فيه على نحو من التناغى والتجاوب الجميل ولنتأمل أبيات (محمود حسن إسماعيل) فى رثاء الدكتور محمد غنيمى هلال والتى يقول فيها:
أشتاق أن أقول .......
.......كان موجة صافية الهدير
...................................... (3)..............................
ـــــــــــــــــــــــ ظاهرة تماثل الأبنية في شعر محمود إسماعيل ــــــــــــــ
**************************************
يبقى الأديب الحريص على تحديث فنه كدولاب لا يكفّ عن الدوران، يمتح من بحار المبدعين المشهود لهم بالأصالة والتجديد؛ ليوظف ما يراه مناسبًا في تجاربه التي يتغيّا إبداعها ونشرها.
ومحمود حسن إسماعيل شاعر كبير ذو أبعاد وآفاق، متعدد المواهب والمذاهب، يتغيّا في شعره ويتزيّا بالكثير من الوسائل والتقنيات التعبيرية والأسلوبية اللافتة ، ومن الوسائل التعبيرية اللافتة للناظر في شعر محمود حسن إسماعيل ما يمكن أن نطلق تماثل الأبنية التركيبية وهى على أفقين:-
الأفق الأول :- يمكن أن نطلق عليه التماثل اللفظى للأبنية حيث تتوزع الأبنية وتتشابه تشابها لفظيًا تتجاذب فيه على نحو من التناغى والتجاوب الجميل ولنتأمل أبيات (محمود حسن إسماعيل) فى رثاء الدكتور محمد غنيمى هلال والتى يقول فيها:
أشتاق أن أقول .......
.......كان موجة صافية الهدير
تروّى كل تلعة
من فيضها وفيضها الغزير
وكان شوق لجة
تعشق أن تعانق الغدير
وكان وجه عاصف مزمجر بالموت والنشور
..
لحداً لكل ظلمة
.. سداً لكل رجعة ، مداً لكل نور
وكان فأس حاطب
من فيضها وفيضها الغزير
وكان شوق لجة
تعشق أن تعانق الغدير
وكان وجه عاصف مزمجر بالموت والنشور
..
لحداً لكل ظلمة
.. سداً لكل رجعة ، مداً لكل نور
وكان فأس حاطب
.. وكان كأس شارب
.. وكان لمح سارب فى توهة العبور
وكان درب سابل
.. وكان حرب جاهل
.. وكان سكب يقظة ونور
وكان فى انطوائه
وكان فى انتمائه
توهجاً يدور
وكان فوح عشبة...............
.. وكان لمح سارب فى توهة العبور
وكان درب سابل
.. وكان حرب جاهل
.. وكان سكب يقظة ونور
وكان فى انطوائه
وكان فى انتمائه
توهجاً يدور
وكان فوح عشبة...............
(الأعمال الكاملة محمود حسن إسماعيل، 3/305)
نلاحظ بعد تفتيت الأبيات إلى وحداتها الجزئية المستقلة أن هذه الوحدات تسيطر عليها بنيتان تركيبيتان أساسيتان تتكون الأولى من (خبر منصوب للفعل الناقص كان فى بداية المقطع ثم جار ومجرور ثم مضاف إليه)، وأما البنية الثانية فتتكون من (حرف عطف ثم الفعل الناقص كان، واسمه المستتر ثم خبره، ثم مضاف إليه )، وبالتأمل سنجد كل بنية من البنيتين تتكرر عدة مرات بنفس الترتيب الأمر الذى يُضفى المزيد من الهندسة الإيقاعية على المقطع ففى الصيغة الأولى تتوالى الأبنية التركيبية هكذا:
خبراً لكان منصوب جار ومجرور مضاف إليه
لحـدًا لكل ظلمة
سـدًا لكل رجعة
مـدًا لكل نـور
خبراً لكان منصوب جار ومجرور مضاف إليه
لحـدًا لكل ظلمة
سـدًا لكل رجعة
مـدًا لكل نـور
والبنية الثانية هكذا :-
حرف عطف فعل ناقص واسمه مستتر خبر الفعل الناقص مضاف إليه
و كان شوق لجة
و كان وجه عاصف
و كان فأس حاطب
و كان كأس شارب
و كان لمح سارب
و كان درب سابل
و كان حرب جاهل
و كان سكب يقظة
و كان فوح عشبة
ويضيف الشاعر فى النهاية إلى هذه الهندسة التركيبية الإيقاعية الفذة التوافق الوزنى بين الواحدات الصرفية المتقابلة ويحصرها فى ثلاثة أوزان:
[ (فَعْلًا):مثل كلمات: لحدًا – سدًا - مدًا] [ فَعْل مثل كلمات: وجه – فأس – كأس – لمح – درب – حرب – سكب – فوح] [(فاعل): مثل كلمات: حاطب – شارب – سارب – سائل – جاهل ] ولا ينسى الشاعر أن يكسر انتظام هذا السياق من وقت لآخر حتى لايغدو عمله نمطًيًّا بمثل قوله: وكان فى انطوائه، وكان فى انتمائه توهجًا يدور) وتابع معى تلك الأبنية الإيقاعية والترانيم البنيوية الجميلة:
حرف عطف فعل ناقص واسمه مستتر خبر الفعل الناقص مضاف إليه
و كان شوق لجة
و كان وجه عاصف
و كان فأس حاطب
و كان كأس شارب
و كان لمح سارب
و كان درب سابل
و كان حرب جاهل
و كان سكب يقظة
و كان فوح عشبة
ويضيف الشاعر فى النهاية إلى هذه الهندسة التركيبية الإيقاعية الفذة التوافق الوزنى بين الواحدات الصرفية المتقابلة ويحصرها فى ثلاثة أوزان:
[ (فَعْلًا):مثل كلمات: لحدًا – سدًا - مدًا] [ فَعْل مثل كلمات: وجه – فأس – كأس – لمح – درب – حرب – سكب – فوح] [(فاعل): مثل كلمات: حاطب – شارب – سارب – سائل – جاهل ] ولا ينسى الشاعر أن يكسر انتظام هذا السياق من وقت لآخر حتى لايغدو عمله نمطًيًّا بمثل قوله: وكان فى انطوائه، وكان فى انتمائه توهجًا يدور) وتابع معى تلك الأبنية الإيقاعية والترانيم البنيوية الجميلة:
تقطعت بالزورق الحبال
وأبلست مرافئ الظلال
وأغلست مسارب الخيال
......................
ولا مساء دعوة أخيرة إلى سماء
ولا مدار حيرة ضريرة إلى رجاء
ولا جؤار عتمة مقهورة إلى ضياء
وأبلست مرافئ الظلال
وأغلست مسارب الخيال
......................
ولا مساء دعوة أخيرة إلى سماء
ولا مدار حيرة ضريرة إلى رجاء
ولا جؤار عتمة مقهورة إلى ضياء
الفقرة الأولى تكونت من :-
فعل جار ومجرور أو مضاف إليه فاعل
تقطعت بالزورق الحبال
أبلست الظلال الرافئ
أغلست الخيال مسارب
والفقرة الثانية تكونت من :-
لا نافية للجنس اسمها نعت جار ومجرور
لا مسار دعوة أخيرة إلى سماء
لا مدار حيرة ضريرة إلى رجاء
لا جؤار عتمة مقهورة إلى ضياء
إن خبرة الشاعر وتمرسه وموهبته الصادقة هما اللذان أمليا عليه تلك الهندسة وذاك الإبداع.
فعل جار ومجرور أو مضاف إليه فاعل
تقطعت بالزورق الحبال
أبلست الظلال الرافئ
أغلست الخيال مسارب
والفقرة الثانية تكونت من :-
لا نافية للجنس اسمها نعت جار ومجرور
لا مسار دعوة أخيرة إلى سماء
لا مدار حيرة ضريرة إلى رجاء
لا جؤار عتمة مقهورة إلى ضياء
إن خبرة الشاعر وتمرسه وموهبته الصادقة هما اللذان أمليا عليه تلك الهندسة وذاك الإبداع.
* الأفق الثانى: يمكن أن نطلق عليه التماثل المعنوى؛ حيث تتجاذب فيه الأبنية حسب المعانى فيستدعى بعضها بعضًا فى نحو من الإبداع والاتساق. وخير مثال على مناسبة الكلمة للسياق وللغرض ديوانه " لابد"؛ فالديوان تجسيد لرغبة عارمة فى تغيير كل ما هو متخلف ردئ فى هذا الوجود، وإصرار عنيد على اجتياز كل العقبات وكل مظاهر التخلف والجمود إلى كل ما هو نبيل، وهذا الإصرار العنيد يواجهنا حتى من قبل أن نفتح الديوان فى هذا العنوان الباتر على الغلاف (لابد)، وهذا العنوان الذى يحمله الديوان هو نفسه عنوان أولى قصائد الديوان بل إن هذه الكلمة عنوان على أبرز ملامح رؤية الشاعر فى الديوان كله ملامح الإصرار والعزيمة والتصميم . تعتبر قصيدة "لابد" – أولى قصائد الديوان – التى منحته عنوانه الأساس– اللحن الأساس لهذا النشيد الجليل حيث تعلو فيها – بدون أية خطابية – نغمة الإصرار الشديد على تحقيق كل الأهداف النبيلة للنضال، ويبلغ الشاعر قمة رفيعة فى تصوير هذه الاندفاعة الجارفة التى تكتسح كل العقبات والتى قد تعترض طريق الوصول إلى الهدف مستغلاً كل طاقات لغته التصويرية الخارقة، حتى ليكاد القارئ يسمع عصف هذه الاندفاعة ويحس حرارتها، وما ذلك إلا لأن الشاعر يستخدم مجموعة من أشد الأفعال عنفا وعرامة فهو يقول :
لابد أن نسير
ونجرف الأقدار من طريقنا الكبير
ونعصر الرماح فى تلفت المصير
ونصعق الهشيم فى احتضاره الأخير
انصهر القيد وذابت غشية الظلام
وانداح كل واقف فى غضبة الزحام
وانطلقت من رقها عواصف الزئير
بفجرها وجمرها وأمسها المرير (إسماعيل، لابد ص:30)
لننظر فى الأفعال"نجرف" "نعصر" "نصعق" "انصهر" "ذابت" "انداح" "انطلقت" . ولنتأمل مدى ما ينفجر منها من عرامة وعنفوان، ولنلاحظ مجموعة الأسماء التى دارت فى فلك هذه الأفعال؛ لتدعيم تأثيرها الإيحائى العارم من مثل "الرماح" و"الزحام" و"عواصف" و"الزئير" وغير ذلك من الكلمات التى تتناغى كلها؛ لتجسيد هذا السيل العارم من الإصرار، وتتمركز كل هذه المفردات والعبارات حول هذه العبارة الحاسمة ، (لابد أن نسير) التى تمثل النغمة المحورية فى القصيدة التى يفتتح بها الشاعر كل مقطع من مقاطعها. ولكى يبرر الشاعر فينا عرامة هذه الاندفاعة، وينأى بها عن أن تكون مجرد مبالغة تصويرية غير ذات معنى فإنه يلجأ إلى تحقيق نوع من التعادل التصويرى عن طريق إبراز ضخامة العقبات التى تعترض طريق تلك الاندفاعة والتى تبرر عرامتها واكتساحها فأمام كل نبضة فى الاندفاعة عقبة كأداء " فالأقدار بمعنى البلايا والمحن" أمام "نجرف" و"الهشيم" أمام (نصعق ) "القيد" أمام (انصهر) وغشية الظلام "أمام (ذابت) و"واقف" أمام (انداح) . وبذلك يتحقق التعادل والتوازن الفنى الذى يبرز التركيز على تجسيد هذه الاندفاعة ، وتبلغ براعة الشاعر مداها حين يجعل العقبات ذاتها خيوطًا فى النسيج التصويرى لملامح هذه الاندفاعية فيغدو الهشيم - مثلًا- مفعولًا لنصعق، ويغدو القيد فاعلًا لانصهر "ويغدو واقف" فاعلا لانداح، وتغدو عواصف الزئير فاعلًا لانطلقت، ونجد كذلك تناعيًا صوتيًا بين ( فجرها – أمسها - جمرها) الذى يبدو كأنه تجاوب يعد كل شئ للتحول والانصهار، وكيف وضع الشاعر (الجمر) بين ( الأمس والفجر)، ولا يلبث الشاعر أن يضفى على هذه الاندفاعة العارمة طابعًا إنسانيًا شفّافًا؛ ليبرز الوجه الوضئ من تجربته متمثلًا فى غايتها النبيلة الرائعة التى تتحدى كل جهامة الواقع، وكل صلابة العقبات وقسوتها، والتى تتحول فى إطارها هذه العرامة إلى صورة بالغة العذوبة والرقة والوداعة يقول :
لابد أن نسير
ونخطف الظلال من محاجر الهجير
ونلقط الحبة من مناقر النسور
ونبذر الربيع فى مخالب الصخور
الشاعر هنا يهدف إلى أن يصنع فردوسًا إنسانيًا جليلًا وسط جهامة الواقع وقسوته، وصلابته، ولا يكف عن مزجه الرائع بين بعدى رؤيته المتعارضتين (الظلال ومحاجر الهجير) (الحبة ومناقر النسور)(الربيع ومخالب الصخور)، والمزج هنا ليس مزجاً سلبيًا بين عنصرين جامدين، وإنما هو مزج إيجابى خلاق يتم من خلال فعل إيجابى فى كل صورة من صور المزج فعل ينتصر للقطب النبيل من القطبين المتصارعين، وتأمل هذا التناغم الصوتى بين كل متناقضين؛ إذ بين كل صوتين متناقضين قطب يحدث نسبية التناقض والتنافر هكذا :
نقطف الظلال محاجر
نلقط الحبة مناقر
نبذر الربيع مخالب
حتى الصيغة الصرفية كان الشاعر موفقا فيها أبلغ توفيق فأفعال الجانب النبيل كلها مضارع مبدوء بالنون على صيغة (نفْعل)؛لتتجاذب فيما بينها متحدة ضد قوى الظلم التى اتخذت وزن: (مَفاعِل) وتبلغ الدقة أقصاها عندما نلاحظ أفعال الجانب النبيل أضفت عليها صيغة المضارع التجدد والاستمرار والسعى الدؤوب، وكأن عاطفة الشاعروأمله وإصراره هو الذى يسعى وفى المقابل تجد جانب الظلم قد أضفت عليه الاسمية ثبوتًا وجمودًا إيذانا بالهزيمة، فأنت ترى الحبة وسط الظلال والربيع فالحبة مع ظلال التراب تكون نفسها هى الربيع، ثم تأمل كيف نسق الصعب فى أشكال ثلاثة قد لا يتعداها:
(1) مادى متحرك (النسور) (2) مادى ثابت (الصخور) (3) معنوى (الهجير)، ثم اختار للمعنوى حرف الباء إشارة لسهولة الإجهاز عليه، وللمادى المتحرك والثابت حرف المد الواو إشارة إلى صعوبته وعرامته، وعلى هذا النحو يستمر الصراع بين قطبى رؤية الشاعر على امتداد القصيدة التى تنتهى دون أن ينتهى هذا الصراع حيث اختتم الشاعرالقصيدة بما افتتحها به من أن انتصار الطرف النبيل فى هذا الصراع الأبدى لا يتم إلا بالإصرار العنيف المتمثل فى عمل إيجابى مكتسح وتتردّد النغمة المحورية فى الختام مكرَّرة هذه المرة تأكيداً لهذا الإصرار المتفجر من ثناياها :
لابد أن نسير ... لابد أن نسير.
لابد أن نسير
ونجرف الأقدار من طريقنا الكبير
ونعصر الرماح فى تلفت المصير
ونصعق الهشيم فى احتضاره الأخير
انصهر القيد وذابت غشية الظلام
وانداح كل واقف فى غضبة الزحام
وانطلقت من رقها عواصف الزئير
بفجرها وجمرها وأمسها المرير (إسماعيل، لابد ص:30)
لننظر فى الأفعال"نجرف" "نعصر" "نصعق" "انصهر" "ذابت" "انداح" "انطلقت" . ولنتأمل مدى ما ينفجر منها من عرامة وعنفوان، ولنلاحظ مجموعة الأسماء التى دارت فى فلك هذه الأفعال؛ لتدعيم تأثيرها الإيحائى العارم من مثل "الرماح" و"الزحام" و"عواصف" و"الزئير" وغير ذلك من الكلمات التى تتناغى كلها؛ لتجسيد هذا السيل العارم من الإصرار، وتتمركز كل هذه المفردات والعبارات حول هذه العبارة الحاسمة ، (لابد أن نسير) التى تمثل النغمة المحورية فى القصيدة التى يفتتح بها الشاعر كل مقطع من مقاطعها. ولكى يبرر الشاعر فينا عرامة هذه الاندفاعة، وينأى بها عن أن تكون مجرد مبالغة تصويرية غير ذات معنى فإنه يلجأ إلى تحقيق نوع من التعادل التصويرى عن طريق إبراز ضخامة العقبات التى تعترض طريق تلك الاندفاعة والتى تبرر عرامتها واكتساحها فأمام كل نبضة فى الاندفاعة عقبة كأداء " فالأقدار بمعنى البلايا والمحن" أمام "نجرف" و"الهشيم" أمام (نصعق ) "القيد" أمام (انصهر) وغشية الظلام "أمام (ذابت) و"واقف" أمام (انداح) . وبذلك يتحقق التعادل والتوازن الفنى الذى يبرز التركيز على تجسيد هذه الاندفاعة ، وتبلغ براعة الشاعر مداها حين يجعل العقبات ذاتها خيوطًا فى النسيج التصويرى لملامح هذه الاندفاعية فيغدو الهشيم - مثلًا- مفعولًا لنصعق، ويغدو القيد فاعلًا لانصهر "ويغدو واقف" فاعلا لانداح، وتغدو عواصف الزئير فاعلًا لانطلقت، ونجد كذلك تناعيًا صوتيًا بين ( فجرها – أمسها - جمرها) الذى يبدو كأنه تجاوب يعد كل شئ للتحول والانصهار، وكيف وضع الشاعر (الجمر) بين ( الأمس والفجر)، ولا يلبث الشاعر أن يضفى على هذه الاندفاعة العارمة طابعًا إنسانيًا شفّافًا؛ ليبرز الوجه الوضئ من تجربته متمثلًا فى غايتها النبيلة الرائعة التى تتحدى كل جهامة الواقع، وكل صلابة العقبات وقسوتها، والتى تتحول فى إطارها هذه العرامة إلى صورة بالغة العذوبة والرقة والوداعة يقول :
لابد أن نسير
ونخطف الظلال من محاجر الهجير
ونلقط الحبة من مناقر النسور
ونبذر الربيع فى مخالب الصخور
الشاعر هنا يهدف إلى أن يصنع فردوسًا إنسانيًا جليلًا وسط جهامة الواقع وقسوته، وصلابته، ولا يكف عن مزجه الرائع بين بعدى رؤيته المتعارضتين (الظلال ومحاجر الهجير) (الحبة ومناقر النسور)(الربيع ومخالب الصخور)، والمزج هنا ليس مزجاً سلبيًا بين عنصرين جامدين، وإنما هو مزج إيجابى خلاق يتم من خلال فعل إيجابى فى كل صورة من صور المزج فعل ينتصر للقطب النبيل من القطبين المتصارعين، وتأمل هذا التناغم الصوتى بين كل متناقضين؛ إذ بين كل صوتين متناقضين قطب يحدث نسبية التناقض والتنافر هكذا :
نقطف الظلال محاجر
نلقط الحبة مناقر
نبذر الربيع مخالب
حتى الصيغة الصرفية كان الشاعر موفقا فيها أبلغ توفيق فأفعال الجانب النبيل كلها مضارع مبدوء بالنون على صيغة (نفْعل)؛لتتجاذب فيما بينها متحدة ضد قوى الظلم التى اتخذت وزن: (مَفاعِل) وتبلغ الدقة أقصاها عندما نلاحظ أفعال الجانب النبيل أضفت عليها صيغة المضارع التجدد والاستمرار والسعى الدؤوب، وكأن عاطفة الشاعروأمله وإصراره هو الذى يسعى وفى المقابل تجد جانب الظلم قد أضفت عليه الاسمية ثبوتًا وجمودًا إيذانا بالهزيمة، فأنت ترى الحبة وسط الظلال والربيع فالحبة مع ظلال التراب تكون نفسها هى الربيع، ثم تأمل كيف نسق الصعب فى أشكال ثلاثة قد لا يتعداها:
(1) مادى متحرك (النسور) (2) مادى ثابت (الصخور) (3) معنوى (الهجير)، ثم اختار للمعنوى حرف الباء إشارة لسهولة الإجهاز عليه، وللمادى المتحرك والثابت حرف المد الواو إشارة إلى صعوبته وعرامته، وعلى هذا النحو يستمر الصراع بين قطبى رؤية الشاعر على امتداد القصيدة التى تنتهى دون أن ينتهى هذا الصراع حيث اختتم الشاعرالقصيدة بما افتتحها به من أن انتصار الطرف النبيل فى هذا الصراع الأبدى لا يتم إلا بالإصرار العنيف المتمثل فى عمل إيجابى مكتسح وتتردّد النغمة المحورية فى الختام مكرَّرة هذه المرة تأكيداً لهذا الإصرار المتفجر من ثناياها :
لابد أن نسير ... لابد أن نسير.
:
:
..............
:
..............
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق